تعتبر شفاعمرو من المدن الفلسطينية التاريخية، فقد استقرت فيها شعوبٌ عدة نظرًا لموقعها المركزي القريب من الناصرة وعكا وحيفا. وتأثرت المدينة بعوامل الطبيعة وواجهت حقبًا تاريخية تخللتها الحروب والاحتلالات، وحقبًا مزدهرة جعلت منها معلمًا تاريخيًا مهمًا، تشهد عليه آثارها التي يزورها الكثير من المهتمين بثقافات الشعوب واحداثيات التاريخ، لكن أبناء هذه المدينة قل ما يلتفتون اليها ولو بنظرة خاطفة.
نبذة تاريخية
قلعة شفاعمرو ما زالت شامخة...
يعرف باحث الآثار رافع ابو ريا (من سخنين) تاريخ شفاعمرو من خلال عمله المتواصل في سلطة الآثار وبصفته مستشارًا متطوعًا في هذا المجال، فقد شارك بلدية شفاعمرو في العديد من الأبحاث حول ما يمكن أن يسهم في دعم هذا الإرث والمساهمة في عرضه بشكلٍ حضاري لائق.
ولأبو ريا رأيٌ خاص في مدينة شفاعمرو، إذ يعتبرها من أكثر المدن العربية المثيرة للإهتمام بفضل الآثار المخزونة فيها، خاصةً انها تجمع حضاراتٍ ودياناتٍ مختلفة، وهذا التميز واضح في ما خلفته الشعوب السابقة من معالم لا يمكن محوها، بدءًا بالكنيس اليهودي القديم في البلدة القديمة، ثم هناك الخلوة الدرزية التي يُشار إلى انها أولى أماكن التعبد الدرزية في العالم، فقبلها كان الدروز يصلون في الجوامع إلى جانب اخوتهم المسلمين.
يؤكد ابو ريا ما تناولته الأبحاث السابقة عن أن شفاعمرو كانت قائمة قبل الميلاد، ويرج َح ان يكون الكنعانيون اول سكانها، كما ورد ذكر المدينة في التلمود، بعد خراب هيكل سليمان في القدس عام 70 للميلاد، فقد تم نقل مجلس السنهدرين اليهودي إلى" يفنه" ثم هوشه(وهي قرية قريبة من شفاعمرو هُجر اهلها عام النكبة – 1948) وبعدها إلى شفاعمرو سنة 150 للميلاد.
ثم سكنها المسيحيون وبنوا فيها كنيسة في القرن الرابع الميلادي، كما سكنها الدروز في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ويعتقد ان صلاح الدين يوسف بن ايوب حط فيها عام 586هـ (1190م) لمحاربة الصليبيين في عكا.
الباحثة ايما معيان
وفي منتصف القرن الثامن عشر أقام ظاهر العمر الزيداني فيها لمدة 6 سنوات (1751 - 1757) ثم استولى على عكا والجليل واستقل عن الاتراك واتخذها مقرًا له، فسلم شفاعمرو لابنه عثمان ليكون واليا عليها وعلى ضواحيها فكانت مركزًا لحكمه. اراد عثمان ان يقوي البلده وان يحصنها ليحافظ على امنها فبنى قلعته الشهيره واقام الابراج حولها.
واليوم تجتمع ثلاث طوائف في المدينة: مسلمون ومسيحيون ودروز بعد أن تركَت آخر العائلات اليهودية شفاعمرو عام 1920.ويرى أبو ريا في المغاور البيزنطية معلمًا مركزيًا ومتمي زًا في شفاعمرو وخاصة النقوش المأخوذة من عالم النبات والحيوان والطيور والأسماك، ولا يوجد مثيل لهذا النمط في أيٍ مكان في العالم.
وأجاب أبو ريا عن سؤال هام: أينَ يقف عامل الصيانة والحفاظ على آثار شفاعمرو فقال: "استشارني المسؤولون في البلدية منذ فترةٍ طويلة ووقفت ولا أزال إلى جانبهم، فما زالت الحفريات جارية في المدينة. وفيما يتعلق بحماية الآثار الموجودة فقد لا يعلم الكثيرون أن ترميمها لا يشبه بناء عمارة، فهو يحتاج الى طواقم مهنية تشمل خبراء ميدانيين ورجالاً مختصين وهندسيين، فلا يمكن أن نزيل حجرًا بسهولة، هذه الأعمال تحتاج الى مبالغ طائلة تصل إلى ملايين الشواقل".
جولة في المغاور البيزنطية
المغاور البيزنطية
تجولنا بصحبة الاستاذ عصام نصر الله مراقب بلدية شفاعمرو والباحثة إيما معيان-فينر، التي تعل م الفنون في جامعة حيفا، في المغاور البيزنطية وفوجئنا بكنوزها التاريخية. ويبدو المكان صرحًا تاريخيًا، لكنه مهمل، فلم يعتن بِه أحد، باستثناء بعض المدارس التي تتطوع مرة في العام لتنظيف ما حوله من أوساخٍ وركام ومخلفات.
سألنا ايما عن سبب اهتمامها بالكشف عن الاثار، وتحديدًا عن المغاور البيزنطية فقالت: "هي الصدفة التي أوصلتني الى هذا المكان، جئتُ للتحقق من معلومة تاريخية عن المدينة، من باب تخصصي في الفنون، وأتيتُ بخارطة تُشيرُ الى المكان الذي أبحثُ عنه، وبمعونة من عصام وصلتُ الى المكان... فاجأني ما شاهدتُ لسببيْن: الأول أن النقوش التي رأيتُها جميلة، تشدُ الناظر اليها، وجدتُ خمس مغاور من بينها ثلاثٌ نقشت بأشكالٍ عدة منها الأسد، العصافير، العنب والصلبان، بالإضافة الى الكتابات، ولم تُسعفني قراءاتي ولا معلوماتي في اكتشافِ هوية أصحاب هذه المغاور وساكنيها، ولمستُ آثار كلماتٍ منقوصة فَعَل الزمن فعله فمحاها، والتي قد تدُل على اسمٍ معين يربِطُ المكان بصاحبه او مبدعه".
وتتابع ايما: "بات شبه مؤكد أن ساكني هذه المغاور البيزنطية هم أموات دفنوا فيها، ولا شك ان المغاور المنقوشة سكنها الأغنياء، بينما سكن الفقراء في المغاور غير المنقوشة. وهناك تخمينات بشأن صناع هذه القبور: فقد يكونون مجموعة يهود تنص روا، أو نصرانيين".
شفاعمرو بلد المحبة والاخوة
الأستاذ الياس جبور
والتقينا بالاستاذ الياس جبور، وهو أبرز المهتمين بتوثيق تاريخ هذه المدينة، ويعكف على إصدار كتابٍ يتناول تفاصيل شفاعمرو بماضيها العريق. وقد تحدث بكثيرٍ من الاعتزاز عن العلاقات الوثيقة التي ربطت أهل المدينة بطوائفهم الأربع: مسيحيين ومسلمين ودروز ويهود فقال: "معروف عن شفاعمرو تاريخيًا الحركة الناشطة كونها ملتقى مركزيًا بين ثلاث مدن كبرى في الجليل. وتميزت المدينة بسوقها الذي كان ملتقى لسكان الجوار على مدار قرون".
المطلوب: "الحفاظ على البقية الباقية"
أخبرتنا الباحثة ايما معيان بانها ستنشر نتائج بحثها حول مغاور شفاعمرو في شهر كانون الثاني من العام 2009 في صحف عالمية،وتقول ان ما يثيرُ الاستفزاز أن هناك اموالاً خصصت للتنظيف والحفاظ على هذه الآثار قبل عام، "لكن لستُ أدري ماذا يجري هناك، ولماذا لا يتم تحريك ساكن. إنه شيءٌ مؤلم أن تمحي هذه المعالم، وهذا ما قد يحدث على ضوء الشروخ والتصدعات التي تظهر في بعض المغاور".
وبالمقابل اخبرنا الاستاذ عصام نصر الله المهتم بشكلٍ خاص بموضوع الآثار - أن السلطة المحلية لا تستطيع لوحدها الحفاظ على هذه الاثار، فهِيَ عادة تتأصلُ في الانسان ويتربى عليها، ومن ليس لديه وعيٌ بقيمة ما هو مخزون في المدينة، لن يتكفل بحمايته".
الأستاذ عصام نصرلله
ويؤكد الاستاذ عصام ان هنالك ميزانية أُقرت وحُددت للحفاظ على ما تبقى من اثار، واستثمار ما يمكن استثماره في إنعاش السياحة في المدينة، لكن المبلغ الذي خُصص بالكاد يكفي لوضع خطة للحماية من قبل السلطات المختصة، "ونحنُ نطمح للكثير، نحلم ان نُنعش سوق البلدة القديمة، وان نحو ل قلعة شفاعمرو الى متحفٍ يصونُ المدينة ويحفظها، ونسعى لترميم المغاور البيزنطية... لكن لا اخفي أن الامكانيات محدودة ولسنا قادرين وحدنا على تنفيذ المهمات المطلوبة".
ويتابع نصر الله: "من المفروض ان يصلنا 300 الف شيكل لترميم قلعة شفاعمرو وهو مبلغ زهيد، فالقلعة تحتاج الى ملايين الشواقل لترميمها وصيانتها لكن المتوفر هو بادرة خير من وزارة السياحة ونأمل أن يأتي المزيد من الميزانيات، وبعدها ستتطور الأمور، فالمسألة لا تتعلق بـ "كن فيكون" هناك مراحل طويلة يجري العمل فيها حتى نصل الى مرادنا".
وعن الجهة المسؤولة عما وصلت اليه الآثار من إهمال يقول نصر الله: "كلنا نتحمل المسؤولية، الفرد عليه مسؤولية، وقبله البلدية والمدارس والحكومة، ليس هناك من يمكن ان نعفيه من مسؤوليته، وسيأتي يومٌ نحاسب أنفسنا على ما فعلناه وما لم نفعله من أجل الحفاظ على هذا الموروث النادر".
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
الاعلانات على مسؤولية اصحابها، ولا يتحمل موقع فرفش أي مسؤولية اتجاهها
|